خزائن ومكتبات القدس | أرشيف

المكتبة الخالديّة في القدس

 

العنوان الأصليّ: «دور كتب فلسطين ونفائس مخطوطاتها».

المصدر: «المجمّع العربيّ العلميّ».

زمن النشر: 1 أيّار (مايو) 1945.

الكاتب: محمّد أسعد طلس. 

 


 

لمحة عن مدارس القدس ودور كتبها قديمًا

لا نعرف شيئا كثيرًا ذا خطر عن مدينة القدس ومعاهدها العلميّة ودور كتبها قبل العصر الأيّوبيّ، كلّ ما يقال عن هذه العاصمة الإسلاميّة الكبيرة قبل هذا العصر هو من باب الحدس والتخمين، ولعلّنا سنطّلع على شيء له خطره من تاريخ مدينة القدس العلميّ في تلك الفترة بعد أن ينشر الأستاذ المربّي الفاضل السيّد أحمد سامح الخالديّ بحثه عن مدارس القدس ومعاهدها، فإنّنا في أشدّ الشوق إلى هذا البحث القيّم الّذي ننتظره لتلتئم الحلقات المفقودة من سلسلة تاريخ المعاهد الإسلاميّة في ديار الشام.

كان دخول صلاح الدين إلى القدس عام 583 هـ (1184 م)، حادثًا خطيرًا من الوجهتين السياسيّة والعلميّة، ولا نريد أن نعرض إلى الناحية السياسيّة في هذه اللمحة، وإنّما نريد أن نلمّ بالناحية العلميّة بعض الإلمام.

كان من أوّل أعمال صلاح الدين بعد الفتح الأعظم أن أسّس المدارس والمعاهد وزاد في كتب المسجد الأقصى وبخاصّة الربعات ونسخ القرآن. وصلاح الدين هو الّذي أمر بجعل «دار الإسبتار» المعروفة باسم «La maison des hospitaliers»، مدرسةً كبرى يُعلّم فيها الفقه الشافعيّ وعلوم العربيّة كما يحدّثنا بذلك أبو شامة في «الروضتين». ويحدّثنا مجير الدين أبو اليمن العليميّ في كتابه «الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل» أنّ السلطان صلاح الدين أمر بهدم البناء الّذي أحدثه الصليبيّون في الصخرة "وأعادها كما كانت ورتّب إلها إمامًا حسن القراءة ووقف عليها دارًا وأرضًا وحمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات وربعات شريفة". ويحدّثنا المجير أيضًا أنّ صلاح الدين حوّل المدرسة الكنسيّة «صَنْدحنة» إلى مدرسة سمّاها «المدرسة الصلاحيّة» وأنّ وقفها كان ثالث عشر رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأنّ وظيفة مشيخة هذه المدرسة من الوظائف السنّيّة في مملكة الإسلام. ويحدّثنا المجير أيضًا أنّ صلاح الدين هو الّذي بنى «المدرسة الختنيّة» بجوار المسجد الأقصى خلف المنبر للشيخ العابد جلال الدين محمّد بن أحمد بن محمّد الشاشي المجاور في القدس، ثمّ من بعده على مَنْ يحذو حذوه، وأنّ وقفها كان ثامن عشر ربيع الأوّل سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ومن الطبيعيّ أنّ صلاح الدين كان يزوّد هذه المعاهد بالخزائن ليُنْتفع بها.

وقد سار الأيّوبيّون من بعده سيرته؛ فأسّسوا المدارس وأكثروا من ذلك، والعليميّ يحدّثنا عن هذه المدارس وخزائها حديثًا مفصّلًا.

إنّ ممّا هو جدير بالملاحظة أنّ الأيّوبيّين وعمّالهم كانوا ينتقون لمدارسهم أَنْفَس المخطوطات وأصحّها؛ فقد جدّد الملك المعظّم عيسى «المدرسة الغزاليّة» وجعلها زاوية لقراءة القرآن والاشتغال بالنحو، ووقف عليها كتبًا من جملتها «إصلاح المنطق» لأبي يوسف يعقوب بن إسحق بن السكيت. ويحدّثنا العليميّ أنّه وقف على كرّاسة من هذا الكتاب وهو بخطّ الإمام النحويّ الكبير ابن الخشّاب، وعلى ظهر الكرّاسة الوقف وهو مؤرّخ في التاسع من ذي الحجّة سنة عشر وستمائة.

أمّا في عصر المماليك، فقد ازدادت دور العلم زيادة كثيرة حتّى أصبح عددها يربو على الثمانين مدرسة، وكان في أكثرها خزائن كتب كما حقّق ذلك العالم الأستاذ حنّا إسطفان.

 

دور كتب القدس اليوم

في القدس اليوم كثير من دور الكتب الخاصّة والعامّة، يقرب عددها من العشرة، لكنّ أشهر هذه الخزائن وأعظمها وأكثرها مخطوطات، الداران الكبيرتان: «دار كتب المسجد الأقصى» و«دار كتب آال الخالدي»، وسنتحدّث بإيجاز عن هذه الدور ثمّ ننتقل إلى وصف بعض المخطوطات النفيسة في المسجد الأقصى والخالديّة.

 

«دار الكتب الخالديّة»

هي أعظم دور كتب القدس، تقع في خطّ باب السلسلة عن يمين القاصد إلى الحرم الشريف، وهي المدرسة المعروفة باسم «بركة خان» الّتي آل ملكها إلى آل الخالديّ منذ عدّة قرون خلت، ولمّا انتقلت إلى ملك السيّدة الجليلة خديجة خانم الخالدي ابنة القاضي موسى أفندي الخالدي قاضي عسكر برّ الأناضول، أوصت ولدها الحاجّ راغب أفندي رئيس «المحكمة الشرعيّة» في يافا، أن يجعلها وقفًا يضع فيها كتب الأسرة الخالديّة، فنفّذ راغب أفندي وصيّة والدته في سنة 1318 هـ (1900 م)، وأعانه على ذلك شيخ الشام المرحوم الشيخ طاهر أفندي الجزائري؛ فرتّبا كتبها بمعونة الشيخ أبي الخير محمّد بن محمود الحبّال الدمشقيّ، ولها فهرس يشتمل على أسماء الكتب، وقد ذُكِرَ في مقدّمة هذا الفهرست ما نصّه: "وفّق الله تعالى جناب الفاضل... راغب أفندي الخالدي الديريّ المقدسيّ بمساعدة بعض وجهاء عائلته الكريمة وهما صاحب الفضيلة ياسين أفندي الخالدي وموسى شفيق أفندي الخالدي إلى تشييد غرفة رحبة على جادّة باب السلسلة في القدس الشريف، وضعوا فيها كمّيّة وافرة ممّا وُجِدَ عندهم من بقيّة كتب آبائهم وأجدادهم رحمهم الله، وأضافوا إليها بعضًا من الكتب الموجودة عندهم أيضًا، وجعلوا الغرفة المذكورة دار علوم عموميّة لمن يرغب المطالعة من أيّ فرد كان وشَرَطوا أن لا يخرج منها كتاب حرصًا على المنفعة العامّة، وهي مفتوحة الأبواب لجميع الطلّاب كلّ يوم من الصباح إلى المساء وعيّنوا لها محافظًا أمينًا". تحتوي هذه الدار على نحو عشرة آلاف مصنّف، فيها نحو خمسة آلاف مخطوطة في كلّ نوع من الأنواع العلميّة العربيّة والإسلاميّة.

وقد أضيف إلى كتب الدار القديمة الّتي أسّسها راغب أفندي كتب خزائن أخرى لبني الخالدي هم يوسف ضياء باشا، وروحي بك، وأحمد بدوي بك، ونظيف بك، والأمل معقود أن تضاف إليها الخزائن النفيسة الّتي كان يقتنيها المرحوم العلّامة الشيخ خليل أفندي، فإنّ الكتب الّتي جمعها هي من أنفَس المخطوطات العربيّة ونرجوا أن يكون هذا اليوم قريبًا.

وللدار اليوم قيّم يحفظها أحسن حفظ هو فضيلة الشيخ أمين الأنصاريّ الّذي أنفق عمره على رعايتها واستهداء الناس ما عندهم من نفائس المخطوطات حفظه الله. ولها فهرس مطبوع وهو الّذي طُبِعَ إبّان تأسيسها وهو يحتوي على كتب راغب أفندي وياسين ألإندي وموسى أفندي، أمّا بقيّة كتب الدار فلها فهرس مخطوط نرجوا أن يُطْبَع أيضًا حتّى يتمّ النفع بهذه الدار العظيمة.

 

«دار كتب المسجد الأقصى»

في «جامع المغاربة» بالمسجد الأقصى خزائن لطيفة هي ضمن «المتحف الإسلاميّ» الّذي أسّسه «مجلس الأوقاف الإسلاميّ». وهي خزائن قيّمة بما تحتوي عليه من المصاحف والربعات النفيسة، وفي هذه الخزائن نحو عشرة آلاف كتاب أكثرها مطبوع، وفيها نحو ألف مخطوطة نصفها أجزاء من القرآن الكريم، وهي مفتوحة الأبواب للمطالعين يشرف عليها وعلى المتحف فضيلة الأستاذ الحاجّ يعقوب أفندي البخاري، شيخ الزاوية النقشبنديّة. ولهذه الدار فهرست مخطوط.

 

«دار الكتب الخليليّة»

وقفها المرحوم الشيخ محمّد بن محمّد الخليليّ مفتي الشافعيّة المتوفّى 1147، ويذكر الأستاذ إسطفان أنّ الشيخ الخليليّ هو أوّل من أتى بفكرة إيجاد دار عامّة في القدس كما تنصّ على ذلك وقفيّة كتبه، وقد حُفِظَتْ كتبه في تربته بالمدرسة البلديّة، بخطّ باب السلسلة. لكنّ كثير من مخطوطات هذه الدار ذهبت كما يذكر الأستاذ إسطفان، ولم أستطع زيارتها ولا معرفة ما فيها من الكتب، ولا أدري هل لها فهرست أم لا.

 

«دار الكتب الفخريّة»

هي قسم من الخانقاه الفخريّة المجاورة لـ «جامع المغاربة» الّتي وقفها المقرّ العالي القاضي فخر الدين أبو عبد الله محمّد بن فضل الله ناظر الجيوش الإسلاميّة المتوفّى (733 هـ). والزاوية اليوم ملك لآل أبي السعود، الأسرة العربيّة الّتي تقطن القدس منذ نيّف وسبعة قرون. وقد حدّثني الأستاذ إسطفان أنّ عدد كتب هذه الدار كان نحو عشرة آلاف مجلّد، لكنّ الأسرة اقتسمت هذه الكتب بين أفرادها فتفرّقت كتبها.

 

«خزانة آل قطّينة الحنبليّة»

آل قطّينة أسرة حنبليّة معروفة، وقد حدّثني الأستاذ أحمد سامح الخالدي أنّهم الحنابلة الوحيدون في القدس، وأنّ نسبهم يرجع إلى مجير الدين العليميّ الحنبليّ صاحب «تاريخ القدس والخليل»، وخزانة هؤلاء بباب العامود، وقد كان فيها مخطوطات نفيسة في الرياضيّات والفلك والتنجيم ولم يبقَ منها اليوم شيء.

 

«خزانة آل البديريّ»

آل البديري أسرة عريقة من أعرق أسر القدس أيضًا، وقد كانت عندهم خزائن كبيرة غنيّة بمخطوطاتها، لكنّهم اقتسموها فتشتّت شملها، وأكبر قسم من مخطوطات هذه الخزائن عند الشيخ محمّد أفندي البديري الّذي جعلها في جناح من أجنحة المسجد الأقصى، ولم أستطع زيارة هذه المكتبة على شدّة سعيي، وأرجو أن تتيح الظروف معرفة ما بها من مخطوطات.

 

«خزانة الأستاذ مخلص»

هي خزانة العلّامة السيّد عبد الله بك مخلص عضو «المجمّع العلميّ العربيّ» في دمشق، وهي خزانة ممتازة بما تحويه من آثارها التاريخيّة، وقد نشر الأستاذ الفاضل صاحبها بعض مقالات عن نفائس مخطوطاتها، ولعلّه يتحف قرّاء هذه المجلّة ببحث مفصّل عمّا تحتويه خزائنه العامرة من درر المخطوطات.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.